هل يمتلك الحيوان القدرة على الكلام، أم أن الكلام خاصية إنسانية ؟ طرح هذا السؤال في الفلسفة الحديثة على عهد ديكارت، وبرزت على الساحة الفكرية آنذاك أطروحتان: الأطروحة التي ارتبطت باسم مونتيتني Montaigne والأطروحة التي دافع عنها الفيلسوف ذي الشهرة العالمية ديكارت Descartes.
بلور مونتيني أطروحته انطلاقا من ملاحظة سلوك الحيوان، حيث تبين له أن الحيوانات تتواصل فيما بينها بواسطة الإشارات. وتساءل عما إذا كان هناك فرق بين الكلام وبين قدرة الحيوانات على التعبير عن الألم والمتعة والاستغاثة والتحذير من وجود خطر إلى غير ذلك من الأفعال التي تعبر عنها بأصواتها. وللإجابة على هذا السؤال انطلق من مصادرة مفادها أن اللغة معطى طبيعي. ولما كانت معطى من المعطيات الطبيعية لزم أن تكون موجودة لدى جميع الكائنات الحية، ومن ثمة لا يمكن اعتبارها خاصية إنسانية. ومن هذا المنطلق لم يجد مانعا من القول إن الحيوانات تتكلم مثلما يتكلم الإنسان. ولكي يدعم هذه الأطروحة كان عليه أن ينفي الرأي القائل بأن التواصل اللفظي له خصوصية تميزه عن التواصل غير اللفظي (التواصل بواسطة الحركات والإشارات).واستدل على بطلان هذا الرأي بكون الإشهار يولي أهمية أكبر للتواصل غير اللفظي بالمقارنة مع التواصل اللفظي لتحقيق التواصل. وخلص إلى القول إن الحيوانات لها لغة خاصة بها. وبذلك جعل نظام التواصل لدى الحيوان في نفس مرتبة اللغة الإنسانية.
انطلق ديكارت من نفس الملاحظات التي انطلق منها مونتيني، ولكنه طرح سؤالا مختلفا، حيث تساءل عما إذا كان التواصل بين الحيوانات مؤشرا يدل على أنها تتكلم، مما دفعه إلى التفكير في خصائص اللغة الإنسانية بالمقارنة مع نظم التواصل الموجودة في عالم الحيوان، وتوصل إلا أن أهم خاصية من خصائص اللغة الإنسانية هي قدرتها على التعبير عن الأفكار. إن الكلام الحقيقي في نظره هو الكلام الذي يحمل أفكارا. ومن ثمة استبعد الرأي الذي يحصر اللغة في القدرة على استعمال الأصوات. وأما حجته في ذلك فهي أن الصم-البكم يفتقرون إلى القدرة على استعمال الأصوات من أجل التواصل، ونظرا لكونهم أشخاصا عقلاء يمتلكون القدرة على التفكير ابتكروا نظاما من الرموز للتعبير عن أفكارهم (انظر نص ديكارت في الكتاب المدرسي: اللغة خاصية إنسانية).
ولما كان الحيوان بدوره قادرا على التعبير عن أفعاله، وجد ديكارت نفسه مضطرا للبحث في طبيعة هذه القدرة، حيث تساءل عما إذا كان الحيوان في حاجة إلى القدرات العقلية للتعبير عن أفعاله أم أن الانفعال الغريزي كاف من أجل التعبير عن حاجاته. وكان جوابه هو أن الحيوان لا يحتاج في ذلك لأكثر من الانفعال. واستدل على ذلك بأن هدفه الوحيد في الحياة هو تلبية حاجاته الفيزيولوجية، ولذلك لا يتجاوز سلوكه حدود رد الفعل المباشر تجاه المنبهات الخارجية.
وأما الإنسان فهو من حيث الجوهر كائن عاقل، إنه ذات مفكرة، ولذلك كان في حاجة إلى وسيلة للتعبير عن أفكاره، وهذه الوسيلة هي اللغة. ومن هذا المنطلق اعتبر اللغة خاصية إنسانية، ليس فقط لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتكلم، بل لكونه الكائن الوحيد الذي يفكر.
إن ما يميز الإنسان في نظر ديكارت هم العقل، وهو الشرط الضروري لوجود اللغة. فإذا كان الإنسان يتكلم فلأنه يفكر. وهناك شرط آخر لوجود اللغة في نظره، وهو وجود الغير، ويعتبر الكلام دليلا على وجود الغير باعتباره ذاتا مفكرة. فلولا الكلام لما كان من الممكن معرفة ما إذا كان الغير ذاتا مفكرة أم آلة من الآلات. فإذا كنت، يقول ديكارت، على يقين بأنني موجود لأنني أفكر، فكيف يتسنى لي معرفة ما إذا كان الغير ذاتا مفكرة مثلي؟ إن الكلام باعتباره أداة للتعبير عن الأفكار هو الدليل القاطع على أنه ذات واعية مثلي. فإذا كان يتكلم فلأنه حتما يفكر، وبذلك يمكنني أن أتواصل معه وأتبادل معه الأفكار، في حين لا يمكنني أن أتواصل على ذلك النحو مع الحيوان. ولذلك أمكن القول إن الحيوان لا يتكلم لأنه لا يفكر.
ولعل تبادل الأفكار هو الخاصية الأساسية التي تميز لغة الإنسان عن لغة الحيوان. فالإنسان يعبر عن أفكاره وينقلها إلى غيره، وفي المقابل يتلقى منه أفكارا أخرى، وهكذا ينشأ الحوار وتتطور الأفكار عن طريق الحوار. وأما عملية التواصل لدى الحيوان فإنها تسير في اتجاه واحد ولا تسمح بالتبادل. ففي عالم الحيوان لا يتوقع المرسل جوابا على رسالته من المرسل إليه، لأن وظيفة الرسالة هنا تنحصر في إحداث رد فعل ميكانيكي لدى المرسل إليه، ولا تؤدي بالتالي إلى قيام حوار وتبادل بين الطرفين، وهو ما تؤكده نتائج البحوث العلمية المعاصرة التي تناولت سلوك الحيوان بالدراسة والتحليل.
لقد أوضحت الدراسات العلمية الحديثة أن الفرق الأساسي بين لغة الإنسان ولغة الحيوان يكمن في أن الأولى تستعمل العلامة-الرمز، بينما تستعمل الثانية الإشارة. والفرق بين الإشارة والرمز أو العلامة هو أن الأولى تولد رد الفعل بينما يولد الرمز التفكير. فالإشارة هي شيء يحيل على شيء آخر غير ما يشير إليه أو يطلبه. إن الإشارة منبه. ومعنى ذلك أنها شيء محسوس يولد رد الفعل ولا يبعث على التفكير. فالضوء الأحمر مثلا إشارة تدعو السائق للوقوف، ولا تحثه بالضرورة على التفكير فيما تشير إليه. إن الإشارة في لغة الحيوان وسيلة لإحداث رد الفعل، ويتوقف التواصل عند حدوثه. لقد تنبه ديكارت بدوره إلى هذه الحقيقة في حديثه عن الكائنات الميكانيكية.
وأما العلامة الرمز فهي وسيلة للتفكير تتجاوز وظيفتها إحداث رد الفعل المباشر لأنها توحي بالأفكار المجردة التي لم تتحقق بعد في الواقع. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الانتقال من اللغة الحيوانية الطبيعية إلى اللغة الإنسانية، أي الانتقال من استعمال الإشارات إلى استعمال الرموز هو حدث بالغ الأهمية في تاريخ الكائنات الحية. فهو يدل على الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة، من الوضعية التي تكون فيها الغرائز هي العامل المحدد للسلوك إلى الوضعية التي يلعب فيها العقل دورا مهما في تحديد السلوك. ولذلك يمكن اعتبار اللغة الرمزية هي معيار التمييز الأنطلوجي بين الإنسان والحيوان. تنسجم هذه الفكرة مع ما ذهب إليه عالم الأنثربولوجيا الفرنسي ليفي- ستروس Lévi-Strauss في دراسته للمجتمعات البدائبة حيث أكد أن ظهور التبادل هو العامل الأساسي الذي تسبب في الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة.
وتجدر الإشارة إلى وجود فرق آخر لا يقل أهمية بين العلامة المستعملة في اللغة الإنسانية والإشارة المستخدمة في اللغة الحيوانية، وهو الفرق الذي كشف عنه الفيلسوف الفرنسي برجسون Bergson. برى هذا الفيلسوف أن الفرق الجوهري الموجود بين العلامة والإشارة هو أن الأولى متحركة، تنتقل من موضوع إلى آخر بينما تظل الثانية ملتصقة بموضوع محدد ولا تفارقه أبدا. يقول بهذا الصدد:
"إذا كان للنمل على سبيل المثال لا الحصر لغة، فإن عدد العلامات التي تتدرج في تكوينها لا بد أن يكون محدودا جدا، ولابد أن كل واحدة منها ظلت مرتبطة بموضوع محدد أو عملية محددة منذ أن خرج هذا النوع من الحيوان إلى الوجود. ترتبط العلامة بالشيء الذي تدل عليه في هذه اللغة ارتباطا لا ينفصم. وعلى العكس من ذلك نجد الصناعة والعمل قد اتخذا أشكالا متنوعة ومتغيرة في المجتمع الإنساني. هذا بالإضافة إلى أن كل فرد من أفراد المجتمع يجد نفسه مضطرا لأن بتعلم الدور المنوط به، لأن بنيته البيولوجية لا تؤهله مسبقا لأداء ذلك الدور. ولذلك كان من اللازم أن يتوفر الإنسان على لغة تمكنه من الانتقال في كل لحظة مما يعرف إلى ما يجهل. وأن لا يكون عدد العلامات التي تتألف منها تلك اللغة لا محدودا، وأن تكون قابلة لأن تنقل إلى عدد لا حصر له من الأشياء. إن قابلية العلامة للانتقال من موضوع إلى آخر هي الخاصية الأساسية التي تميز اللغة الإنسانية"
يكشف النص عن أحد الفروق الجوهرية بين لغة الإنسان ولغة الحيوان. والفرق الحاسم بينهما أن الإشارة في اللغة الحيوانية عقيمة جامدة تظل ملتصقة بالموضوع الذي وضعت منذ بداية تشكلها للإشارة إليه. وأما اللغة الإنسانية فهي خصيبة وغنية، علاماتها متحركة، تنتقل باستمرار من موضوع إلى آخر. فكلما حصل تغير وتطور في المجتمع يجد الإنسان نفسه مضطرا لابتكار علامات جديدة. وأما المجتمع الحيواني فهو ثابت وبسيط من حيث أن عدد الأنشطة فيه محدود جدا، وليس فيه ما يدعو إلى ابتكار إشارات جديدة. ولهذا السبب أيضا ظلت الإشارات مرتبطة بموضوعاتها، عاجزة عن اكتساب معاني جديدة.
وإذا كانت العلامات التي تتألف منها اللغة الإنسانية قادرة على اكتساب معاني جديدة فإن السبب في ذلك يرجع إلى طبيعة المجتمع الإنساني وطبيعة الأنشطة التي يزخر بها. وإذا كان الأمر كذلك فإن ما يفسر الفرق بين لغة الإنسان ولغة الحيوان فهو الاختلاف الموجود بين النشاط الإنساني والنشاط الحيواني. ففي المجتمع الحيواني تتوزع الأنشطة بين الأفراد وفقا لمبدأ بيولوجي. إن العوامل الوراثية هي التي تحدد الأدوار وكيفية توزيعها. وأما المجتمعات الإنسانية فتنطوي على عدد لا حصر له من الأنشطة والأدوار المتجددة باستمرار. ذلك لأن عمليات الإنتاج تخضع لقوانين غير بيولوجية، وتنمو وتتطور وفقا لتغير شروطها الاجتماعية. إن الدور لا يتحدد بشكل مسبق ولكنه مبتكر يضطر الفرد لتعلمه. إن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو قدرته الهائلة على الابتكار والتعلم. ومن هذه القدرة تستمد اللغة الإنسانية خصوصيتها المتمثلة في القدرة على النمو والتطور.
وما كان بإمكان اللغة أن تواكب التطور الاجتماعي لولا قدرة العلامة اللسانية على الحركة والانتقال من موضوع إلى آخر. ولولا مرونة اللغة لظل المجتمع الإنساني على ما هو عليه راكدا ركود المستنقع، ولظل الإنسان منغلقا على ذاته يعيد إنتاج تجارب الماضي بما تنطوي عليه من معاني وأفكار بسيطة متجمدة. ولذلك يمكن اعتبار مرونة اللغة هي الشرط الضروري لتطور المجتمعات الإنسانية ورقيها وازدهارها. ولذلك اعتبر برجسون مرونة العلامة وقابليتها للانتقال من موضوع إلى آخر الخاصية الأساسية التي تميز اللغة الإنسانية عن لغة الحيوان، ورفض الفكرة التي تقول إن ما يميز اللغة الإنسانية هي قدرتها على التعميم والتجريد. فإذا كان التعميم يعني استعمال كلمة واحدة للدلالة على عدد كبير من الأشياء مثلما تدل كلمة "شجرة" على جميع النباتات، فإن الحيوان لا يفتقر إلى هذه القدرة افتقارا كليا، فالغزالة بالنسبة للأسد لا تعني الغزالة الماثلة أمامه فقط، بل تعني كل غزالة ممكنة
ولكن كيف تشكلت القدرة على استعمال العلامات والرموز؟ من المرجح أن تكون قد تشكلت نتيجة لحدوث نقلة على مستوى الذهن رافقت التطور النوعي الحاصل على مستوى بنيته العضوية، ذلك التطور الذي كشفت عنه البحوث التي أجراها العالم الروسي لوريا Luria على تطور بنية الدماغ ووظائفه والتي حصل بفضلها على جائزة نوبل. ومن المحتمل أيضا أن تكون هذه النقلة قد حصلت عندما اكتسبت بعض الكائنات الحبة القدرة على إقامة مسافة سيكولوجية بينها وبين متطلبات التكيف من أجل الحفاظ على البقاء. تتجلى هذه المسافة من خلال القدرة على التحكم الإرادي في الفعل المنعكس الطبيعي الذي يراه