انتهى المسلسل بالعبارة التالية : " من المحزن أن بعضنا يرفض النظر إلى الماضي ولا يتفهم أنه بإنكار هذا الماضي سيكرره بالتأكيد "
بدت لي فكرة كتابة مذكراتي أو جانب منها متعة ورحلة للاستشفاء..للتخلص من عبء أثقل كاهلي عمرا والسماح للآخرين بولوج رأسي والتجول في دهاليز ذاكرتي . حتما سيفترض القراء أني سأقول الحقيقة – وأنا أيضا - لكني راوٍ لايمكن ا لوثوق به . كان يراودني شعور بأن إضافة بعض المغامرات الخيالية أمر لا بأس به ، ورأيت أن بعض الأحداث حشو يتطلب الإيجاز حذفها ، كما أن تغيير بعض المواقف وردود الأفعال ممكن بل ولطيف أحيانا. لكن كل ما فعلته قوض حكايتي الأصلية وقلبها رأسا على عقب.
قد تظنون أني كاتب يفتقر إلى الذكاء إذ يمكنني في أبسط الأحوال أن أكون انتقائيا فأنتقي الأحداث الصالحة للسرد وأتجنب تلك التي لا أراها ملائمة . حاولت ، بل وفعلت ذلك . فأنا لا أبالغ في تحسين صورتي لكني كنت حذرا فيما يتعلق بعيوبي . حرصت مثلا على تجنب وصف ملامحي بالرغم مالها من دور كبير في تكوين شخصيتي، لم أخبر القراء عن شكل أذني ولا عن " أرنوب" الاسم الذي كان الأصدقاء يعايروني به في صغري، لم أخبرهم عن الساعات التي أقابل فيها المرآة لأتدرب على الابتسام بطريقة ملائمة لا تتسبب في سيل من النكات والتعليقات.. يا لطيف !... إني أفعل ذلك الآن .
ما إن أشرع بالحديث حتى أنهيه ، عند نقطة تتعلق بقلبي عادة . أتوقف . "أقفل الموضوع " تماما كما أحرص على قفل باب الغرفة دائما .أبرر ذلك بأنهم - في أذهانهم - سيرسمون صورتي برداءة ..هل تتصورون أن يتفرج صلاح الدين مثلا على مسلسل يحمل اسمه يخرجه مخرج مبتدئ ويقوم ممثل رديء بأداء الدور.
لقد كتبت تفاصيل لأشياء تافهة ، مثل اليوم الذي صفعني فيه والدي في المدرسة ، ولأكسب تعاطف الجمهور بالغت في الشرح والتحليل ثم بدت لي الحادثة مـُذلة للغاية ، فحورت وبدلت وجعلت من نفسي متفرجا على ابن الجيران المسكين الذي صفعه والده أمام زملائه .
كتمت الكثير من الصراخ ، وأطلقت العنان للمخيلة التي تتوجني ملكا، وتصنع لي عرشا . حتى في أكثر لحظات حياتي بؤسا .
فقد رفيقي خالد المفاجئ في الحادث المروع كان رهيبا .. كنت أتشوق للوصول إلى هذا الحدث للتعبير عنه فقد أنجح حين أتحدث عن الغائبين . ظننت أني أنجزت شيئا عظيما حين ملئت ثلاث صفحات ولم أكتف بعد ..فتوقفت ، وعند المراجعة كان كل ما كتبته يبدو باهتا جدا .
حينها تراءى لي السؤال التالي : كيف أكتب؟ ثم تنحى هذا السؤال جانبا وظهر سؤال آخر : لماذا أكتب؟ وأخيرا ظهر سؤال نانسي كريس : " هل يمكن الوثوق بضمير المتكلم؟ "
الحقيقة أنه لم يكن ليهمني أن أكتب نصا قويا ولا يهمني أن أحصل على إعجابكم ؟ أن أستدر عطفكم..أو .رضاكم أو انبهاركم و إدهاشكم !
فما الذي سيعنيكم لو أخبرتكم أني قضمت تفاحة حمراء في الساعة الحادية عشرة من ليلة ما؟ هاه ماذا يعني ذلك؟
كيف تصدقون نصا تذكرت فيه أحداث حياتي كاملة ؟! كيف يمكن لي أن أتذكر حوارا طويل الجمل من صفحة أو صفحتين دار بيني وبين رجل غريب زد على ذلك أني ربما أكون حينها مجرد طفل في الثامنة ؟
هل لكم بإشارة لتخبروني بما يحدث معي؟ وما يجب أن يحدث؟ وما يجب أن لا يحدث؟
ربما كان يجدر بي أن أتصور نفسي على نحو مختلف، أن أعتبر نفسي " شيء ما " وليس "أحد ما " شيء ما قابل للوصف وللتحليل والتفكيك والتركيب والتجريد والتمحيص ، قابل للرسم والتخيل كبطل فيلم أو مسرحية ، هذا هو الشيء الذي لم أتمكن من تعلمه حتى الآن . و يا لها من مهمة صعبة .
كان الصراع بين مشاعري وأفكاري وحروفي يزعجني، فضمير المتكلم راوٍ مخادع وغير دقيق ! كيف أحول حياتي إلى حروف وكلمات ؟ كيف أرسم عمرا كاملا موازيا لحياتي التي عشت ؟. كيف أمتلك تلك القوة لاستحضار تفاصيل عصية على الذاكرة ؟.
ترددت في إلغاء فكرة كتابة مذكراتي . ثم فكرت بتأجيلها . وأخيرا ، وبعد طول تفكير خلصت إلى استحالة تدوينها .. يقول علاء خالد: " الحكاية علامة شفاء الراوي" ويبدو أني لم أشف بعد .
قد تبدو حياتي حافلة ومزدحمة بالأحداث الفظيعة ، لكن ليس لدي الشجاعة الكافية للتهور ، والأهم من ذلك فإنه لمن المحرج جدا أن أكون بطلها . إنها ببساطة أبشع من أتمكن من إطلاعكم عليها .
:542: