التراث الشعبي
إن التاريخ الحقيقي لحياة الشعوب، في طبيعة تفكيرها، ونمط تعبيرها، وأشكال انفعالها، وأساليب فعلها، وفي همومها وآمالها، وشقائها وطموحاتها، مايزال تاريخاً غير مكتوب إلى اليوم.
والدراسات التي يظنها المرء قريبة من الشعب، مثل دراسة الآداب والفنون، والتاريخ وسير الرجال، هي دراسات أكثر بعداً عن الشعب، على الرغم مما تبدو عليه من قرب في الظاهر.
إن تاريخ الأدب يعنى بأشكال وأنواع هي من نتاج فئة من الشعب، وليست نتاج الشعب نفسه، ولا شك في أن تلك الفئة هي جزء من الشعب، ولكنها لاتعبر في الأغلب عن وجهة نظره، ولا تمثله في ثقافتها المتميزة، ومزاجها الخاص، والأدب ليس بصادر عن الشعب، وإنما هو موجه إليه، فليست الغاية منه هي التعبير عنه، وإنما التأثير فيه، فالأدب يراد به إلى التغيير، أو الدعاوة لفكرة أومذهب، أو الشهرة على الأقل. وقد تبدو في الأدب صورة ما للشعب، ولكنها ليست صورة موضوعية، ولا حقيقة، وإنما هي صورة من وجهة نظر خاصة، ذاتية، وهي صورة منعكسة في الأدب انعكاساً، وليست متحققة فيه، والباحث هو الذي يستنبطها، وهي بعد ذلك صورة عامة، ذات ملامح باهتة، هي مايعبر عنه عادة بـ "روح العصر":
وأما التاريخ، فقد كان، ومايزال إلى اليوم، معنياً بسير العظماء، وتاريخ حياتهم، وأثرهم في الحياة العامة، ودورهم في مجتمعاتهم، وحتى حين يحاول التاريخ العناية بجماهير الشعب، ذات الدور الحقيقي في صنع التاريخ، يظل مهتماً بأفراد متألقين، يرسم من خلالهم صورة عامة للناس، لا تظهر فيها معاناتهم الحقيقية، ويبدو أن التاريخ الحديث قد أخذ يتجه نحو التاريخ العام، الذي يعنى بتاريخ الحضارات، وبظواهر التاريخ وقضاياه العامة، مثل الحروب والثورات والتغيرات الاقتصادية.
إن التاريخ الحقيقي للشعب، في همومه وعذابه وآلامه وشقائه، وفي أفراحه وطموحاته وآماله وكفاحه، وفي تفكيره وانفعاله، وفي فعله وتعبيره، لايمكن أن يتحقق إلا بالبحث في نتاج يقدمه الشعب نفسه.
والنتاج الذي يقدمه الشعب نفسه، هو النتاج الذي كان، إلى عهد قريب، منبوذاً من أكثر دارسي الأدب، والباحثين في التاريخ، بل كان مزدرى وممقوتاً، إنه النتاج الذي يوصف عادة بأنه نتاج غير راق ولا متطور ولا رفيع، وأنه نتاج "العامة" والذي لا يحظى بشيء من الرعاية والاهتمام، بل لا يلقى الاعتراف، وإن كان في حقيقته ليس كذلك، بل إنه في أهميته وقيمته، على النقيض من ذلك كله.
ولابد من أن يلاحظ أن موقف الازدراء من نتاج الشعب ليس موقفاً أصيلاً ولا قديماً في المجتمع العربي، وإن هو إلاّ موقف طارئ.
لقد عني الدارسون الأوائل بالمرويات الشعبية، وحفظوها، وصنفوا فيها، وأبرزوا قيمتها، مثلها في ذلك مثل الأدب الذي يبدعه كبار الأدباء، أو الأقوال التي يقولها كبار الفلاسفة، ولا يذكر في هذا المجال أفذاذ عنوا بالمرويات الشعبية، أمثال أبو عبيدة معمر بن المثنى (توفي 209هـ) والأصمعي(216هـ) والأصفهاني (356هـ)، فحسب، وإنما يذكر غيرهم أيضاً، من كبار الأدباء، عنوا بالمرويات الشعبية، أمثال الجاحظ(255هـ)، وابن عبد ربه (327هـ)، وأبي علي القالي (356هـ).
ومما لاشك فيه أن العناية اليوم بالنتاج الشعبي ليست كالعناية به في القديم، ولا سيما في الأساليب والمناهج، ولكن عناية الأقدمين به، تظل ذات دلالة على موقف سليم.
وإذن فالنتاج الذي يمكن من خلاله معرفة الشعب معرفة صحيحة، ويمكن به كتابة تاريخه الحقيقي، هو نتاج الشعب نفسه، ويتمثل في كل مايقوله الناس ويفعلونه، في حياتهم اليومية، تجاه موقف ما، استجابة منهم لذلك الموقف، استجابة عفوية، تامة، وتعبيراً عن موقف منه أيضاً.
ويمكن أن يلاحظ في النتاج الشعبي نوعان، النوع الأول قولي، والنوع الثاني فعلي.
ومن النوع الأول، القولي، الحكم والأمثال والأغنيات والحكايات والنكات والتحزورات والدعاوات ونداءات الباعة وأسماء المحلات ومايكتب من كلمات أو جمل أو تعليقات أو أبيات على المناديل والثياب وجدران البيوت من الداخل، وعلى الأبواب وشاهدات القبور، وعلى وسائط النقل، وغير ذلك.
ومن النوع الثاني، الفعلي، الاحتفالات في الأعياد، والمناسبات والطوارئ من زواج ووفاة وولادة، والرقص وألعاب الأطفال، وعادات الزيارة والولائم، وأزياء الملابس، وأثاث البيت وزينته، وغير ذلك.
والنوعان في النتاج الشعبي، من قولي وفعلي، متكاملان، بل متداخلان، إذ كثيراً مايصحب أحدهما الآخر ويشاركه.
وأبرز مايتسم به النتاج الشعبي هو عفويته وشموله، فهو موقف عفوي، يصدر فوراً من غير تخطيط ولا دراسة، ولكنه موقف أصيل، يحمل الفكر والانفعال، معاً، ويمثل شعوراً جمعياً، وهذا مايضمن له سرعة الانتشار والقبول من الجميع، فيحقق بذلك الشمول، فإذا هو كلي، عام، مشترك.
والنتاج الشعبي في حقيقته إبداع جماعي، قد يكون مبدعه الأول فرداً، وقد يكون نتيجة لحادثة وقعت فعلاً، ولكنه لا يظل كذلك، إذ مايلبث أن يصبح ملكاً للجميع، يتناقلونه، ويضيفون إليه، بل يبدعونه ثانية، حتى يبدو في أصله غير حقيقي، فيتخذ عندئذٍ طابعه الشعبي، وينسى مبدعه الأول، كما تنسى حادثته الحقيقية الأولى، وإن ذكرت فكأنها خرافة لا حقيقة.
ولأن النتاج الشعبي تعبير عفوي، فهو مؤقت، ومتغير، وليس ذا شكل أو قالب ثابت، وهو متجدد دائماً، تموت فيه أشكال، وتولد أشكال.
والنتاج الشعبي مايزال إلى اليوم، وإن كان يبدو أنه قد مال إلى الضعف، فالإذاعة والتلفزيون والصحف وغيرها من وسائل الإعلام، قللت من دوره، وحلت محله، في بعض جوانبه.
ولكن لا يمكن للنتاج الشعبي أن يموت، فهو مستمر، دائماً، ولكن في أشكال جديدة مختلفة، ويكفي للمرء أن يذكر النكتة، التي هي حية دائماً والتي هي دائماً دليل حياة.
وإن حيوية النتاج الشعبي واستمراره، تبرز خطأ المصطلح الشائع في الدراسات العربية. وهو "التراث الشعبي"، إذ يدل هذا المصطلح على القديم من النتاج الشعبي فحسب، وكأنه نتاج قد انقطع، أو كأن القديم منه وحده الجدير بالدراسة، على حين أن النتاج الشعبي نتاج حي متواصل، ولايمكن أن تقتصر قيمته على القديم منه.
وإن كلمة "فولكلور" Folklor الإنكليزية، التي استعملها أول مرة وليم طومس W.Thoms سنة 1846 لا تعني مايعنيه مصطلح "التراث الشعبي"، وإنما تعني في اللغة "حكمة الشعب"، أو "المعرفة الشعبية"، وهي تعني في الاصطلاح النتاج الشعبي كله.
وقد اقترحت في اللغة العربية بعض المصطلحات البديلة من مصطلح "التراث الشعبي" مثل: "المأثورات الشعبية"، و"المردَّدَات الشعبية"، و"الفنون الشعبية" و"الشعبيّات" ولكن لم تحظ هذه المصطلحات من القبول والانتشار مثلما حظي به مصطلح "التراث الشعبي".
ولدعم انتشار مصطلح "التراث الشعبي"، وتأكيد وحدته في الأقطار العربية، يبدو أنه لابد من القبول به، ولكن لابد أيضاً من تأكيد أن معناه يجب ألا يقتصر على القديم من النتاج الشعبي، وإنما يجب أن يشمله كله، قديمه وحديثه.
وإن "التراث الشعبي" لايقل في أهميته التاريخية والعلمية عن أهمية الحفريات والآثار، والوثائق والمحفوظات، بل لا يقل في أهميته عن التقارير الحية والإحصاءات، فهو يقدم مادة أوليّة، عفوية ووصادقة، تساعد في معرفة لا تغيب عنها أدق التفاصيل، في عمق ووضوح، وفي نبض ودفء حي.
ولقد لفتت أهمية "التراث الشعبي" أنظار الباحثين العرب، حوالي منتصف هذا القرن، فبدؤوا العناية به، وكان أول ما أولوه اهتمامهم هو السير الشعبية، وكان رائد هذا الاتجاه هو الدكتور عبد الحميد يونس، ثم أخذوا بعد ذلك بالاهتمام بجوانب أخرى، ولكن اهتمامهم مايزال إلى اليوم منصباً على القديم من "التراث الشعبي" وعلى الجانب القولي منه خاصة.
وإن دراسة "التراث الشعبي" لا يمكنها أن تنهض نهوضاً صحيحاً، بل لا يمكنها أن تبدأ بداية سليمة، قبل تدوين ذلك التراث، ورصده وتسجيله، في جوانبه كلها، وفي معناه العام الشامل.